بين التضخم وضعف الأجور.. لماذا أصبحت الإقامة في بريطانيا عبئاً لا يُحتمل؟

بين التضخم وضعف الأجور.. لماذا أصبحت الإقامة في بريطانيا عبئاً لا يُحتمل؟
إعلانات الإيجار في بريطانيا

تعيش بريطانيا واحدة من أشد أزماتها السكنية منذ عقود، بعد أن وصلت أسعار الإيجارات إلى مستويات قياسية غير مسبوقة، تستهلك نحو 44% من متوسط الدخل الشهري للمواطنين، بحسب بيانات منصة "رايتموف" العقارية، وكشفت هذه النسبة التي تتجاوز بأشواط المعدلات المقبولة دوليًا للسكن الآمن والمستدام، حجم الاختناق المالي الذي يواجهه ملايين البريطانيين، خصوصًا في ظل ركود الأجور واستمرار التضخم وارتفاع أسعار الفائدة.

ويعزو الخبراء تفاقم الأزمة وفق ما أوردته صحيفة "الغارديان" الثلاثاء إلى مزيج من العوامل البنيوية والاقتصادية، فقد أدى النقص المزمن في المساكن الجديدة إلى ارتفاع الطلب على العقارات المستأجرة، في حين زادت سياسات الإقراض الصارمة وارتفاع أسعار الفائدة من كلفة تملك المنازل، ما دفع آلاف الأسر إلى البقاء في سوق الإيجار لفترات أطول.

وأشارت تقارير اقتصادية إلى أن المعروض من المساكن المتاحة للإيجار في بريطانيا لا يزال أقل بنسبة 23% مما كان عليه عام 2019، رغم زيادة طفيفة قدرها 9% خلال العام الحالي، وفي المقابل، ارتفعت الأسعار بوتيرة أسرع من الأجور، ما جعل إمكانية السكن المستقل حلماً بعيد المنال لكثير من الشباب والأسر محدودة الدخل.

الإيجار يستنزف المعيشة 

تتحول أزمة الإيجارات في بريطانيا من مسألة اقتصادية إلى أزمة إنسانية متصاعدة، وفق منظمة "سيتزنز أدفايس"، تدفع آلاف الأسر أكثر من نصف دخلها الصافي لتغطية كلفة السكن، ما يترك حيزًا ضئيلًا لتلبية الاحتياجات الأساسية مثل الغذاء والطاقة والتعليم، وتشير المنظمة إلى أن الأسر ذات الدخل المنخفض، والأمهات العازبات، والعاملين في القطاعات الخدمية هم الأكثر تضررًا من هذا الواقع.

وقد زادت حالات التخلّف عن السداد والإخلاء بنسبة تقارب 25% خلال العام الماضي، وفق أرقام "جمعية الملاك البريطانيين"، ما أدى إلى ارتفاع أعداد المشردين والمهددين بفقدان مساكنهم، في وقت تشهد فيه مراكز الإيواء اكتظاظًا غير مسبوق.

ولا تقتصر الأزمة على العاصمة لندن، رغم أن متوسط الإيجار فيها بلغ 2,736 جنيهًا إسترلينيًا شهريًا، بل تمتد إلى مناطق كان يُنظر إليها سابقًا بوصفها بدائل ميسورة، فقد سجلت مدن مثل فولوود في لانكشاير وكِيغلي في غرب يوركشاير ارتفاعات سنوية تجاوزت 30%، في حين شهدت مناطق سومرست وكورنوال ولينكولنشاير زيادات مماثلة، وهذا الارتفاع المتزامن في المدن والبلدات جعل من الصعب على العائلات الهروب من ضغوط السوق، وأدى إلى نزوح داخلي بين المناطق بحثًا عن إيجارات أقل.

أزمة تمتد منذ عقود

منذ ثمانينيات القرن الماضي، شهدت بريطانيا تحولات جذرية في سياسات الإسكان مع تقليص برامج الإسكان الاجتماعي وبيع المنازل الحكومية للمواطنين ضمن خطة "الحق في الشراء"، ما أدى إلى تراجع حاد في مخزون المساكن العامة، وفي الوقت ذاته، زادت الاعتماد على القطاع الخاص دون وضع ضوابط صارمة للإيجارات.

وفي العقد الأخير، أسهمت أزمة التمويل العقاري عام 2008 ثم تداعيات جائحة كورونا في تعميق الفجوة بين العرض والطلب، في حين دفعت موجات التضخم اللاحقة بالبنوك إلى رفع أسعار الفائدة، فانتقلت أعباء القروض إلى المستأجرين بعد أن حمّلهم المالكون جزءًا من كلفة التمويل المتصاعدة.

وتترك الأزمة آثارًا مباشرة في الاقتصاد البريطاني، إذ تقلص القدرة الشرائية للأسر وتضعف الاستهلاك المحلي، ما ينعكس على معدلات النمو والاستقرار الاجتماعي، كما تؤثر بشكل خاص في جيل الشباب الذي يجد نفسه محاصرًا بين أجور راكدة وسوق عقارات ملتهبة، مما يدفع بعضهم إلى تأجيل الزواج أو الإنجاب أو البحث عن فرص عمل خارج البلاد.

وأظهرت دراسة لمعهد "ريزوليوشن فاونديشن" أن متوسط إنفاق الأسر على السكن ارتفع بنسبة 20% خلال خمس سنوات، في حين لم تتجاوز زيادة الأجور 5% في الفترة ذاتها، ما زاد من اتساع الفجوة الطبقية.

ردود الفعل والمواقف الرسمية

أبدت منظمات حقوقية وإنسانية محلية، منها "شلتر" و"كرَيسِس"، قلقها من أن استمرار الوضع الحالي يهدد حق المواطنين في السكن الكريم، وهو حق أساسي ضمن الشرعة الدولية لحقوق الإنسان، وحذرت من أن ارتفاع الإيجارات يفاقم معدلات الفقر الحضري ويضع ضغوطًا على الخدمات العامة.

من جانبها، وعدت الحكومة البريطانية بمراجعة سياسات الضرائب والإسكان ضمن الموازنة المقبلة، في حين أعربت "المفوضية الأوروبية لحقوق الإنسان" عن قلقها من تنامي معدلات التشرد في المدن الكبرى البريطانية، أما في مجلس العموم، فقد دعا نواب من المعارضة إلى فرض قيود على الزيادات العشوائية في الإيجارات وتوسيع برامج الدعم الاجتماعي للسكن.

ورغم أن بعض الإجراءات قيد النقاش، مثل قانون "حقوق المستأجرين" الجديد الذي يمنح المستأجرين حماية كبرى من الإخلاء التعسفي، فإن الخبراء يرون أن تنفيذها قد يستغرق وقتًا، ولا يعالج جذور الأزمة المتمثلة في نقص المعروض السكني.

السكن كحق إنساني

ينص الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والعهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية على أن السكن الملائم حق أساسي من حقوق الإنسان، وليس مجرد سلعة اقتصادية، وتدعو الأمم المتحدة الدول الأعضاء إلى ضمان القدرة على تحمل كلفة السكن، وتوفير سياسات تحمي الفئات الهشة من الإقصاء السكني.

في هذا السياق، انتقدت مقررة الأمم المتحدة الخاصة بالحق في السكن، في تقارير سابقة، ارتفاع تكاليف الإيجارات في المدن البريطانية، معتبرة أن السوق العقاري أصبح أداة لاستثمار رأسمالي أكثر من كونه وسيلة لتأمين حق أساسي للمواطنين.

ويرى الاقتصاديون أن الخروج من الأزمة يتطلب استراتيجية طويلة المدى تشمل زيادة بناء المساكن الاجتماعية، وتوفير حوافز ضريبية للمستثمرين في الإيجارات الميسورة، وإصلاح نظام الدعم السكني للأسر الفقيرة، كما يستدعي الموقف تحركًا سياسيًا جادًا يعترف بأن أزمة السكن ليست قضية اقتصادية فحسب، بل مسألة كرامة إنسانية وعدالة اجتماعية.

ومع استمرار استنزاف الإيجارات لقرابة نصف دخل المواطن البريطاني، يبدو أن "السكن الكريم" في واحدة من أغنى دول العالم يتحول تدريجياً من حق مكتسب إلى رفاهية بعيدة المنال.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية